في وقت تتضارب فيه الآراء، وتلوى فيه أعناق النصوص، ويُدعى فيه وقوع الخلاف في قواطع الشريعة، ويُرفض فيه القول بتحريم شيء لمجرد صدور رأي فيه بتحليل، لا بُدّ لنا أن نعتمد التجربة العملية أساساً لتمييز الخبيث من الطيب، والحق من الباطل. فما من مخالف في أن الشريعة الإسلامية أحلت لنا ما فيه نفعنا وصلاحنا، وحرمت علينا ما فيه شر لنا ومفسدة؛ فالزواج حلال لمنافعه، والزنا حرام لمفاسده الكثيرة وكذا الخمر؛ والربا حرام لمفاسده التي رأى العالم قاطبة شيئاً منها في الأزمة المالية الأخيرة.
وفي هذه الدراسة سنحتكم في مناقشة بعض معاملات المصارف الإسلامية المشبوهة إلى المنطق والعقل، والتجربة والبرهان المتمثل بالأزمة المالية التي ضربت العالم مؤخراً، وننحي جانباً، آسفين، النصوص الفقهية وأقوال الفقهاء بداعي اختلافها، كما يرى البعض، واضطراب الأفهام فيها؛ إذ كلما استند بعضٌ إلى قول من منع، استند بعضٌ آخر إلى قول من أجاز، أو فسّر النص الفقهي بالجواز. لذا، سندع كل ذلك ونجعل منطلقنا قول الله تعالى: "ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث" [من الآية 157 من سورة الأعراف]؛ فإن ثبت نفع هذه المعاملات أخذنا بها، وإن ثبت خبثها وشرها وجب علينا تجنبها.
والمعاملات التي ستتعرض لها الدارسة هي بيوع العينة التي تفشت في مؤسسات التمويل الإسلامي في جنوب شرق آسيا، والتورق الذي تفشى في بعض مؤسسات التمويل الإسلامي في البلدان العربية.
العينة والتورق:
لدى تحليل هذين البيعين ومقارنتهما بالقرض الربوي نرى أنه في القرض الربوي يحصل العميل على النقود التي يريد حالاً، ويتوجب عليه أن يدفع أعلى منها عند أجل معين أو على أقساط. في بيع العينة والتورق المصرفي كذلك يحصل العميل من المصرف الإسلامي على النقود التي يريد حالاً، ويتوجب عليه أن يدفع أعلى منها عند أجل معين أو على أقساط. أين الفارق إذن؟ إنه في طريقة الحصول على المال، ففي الحالة الأولى، بصريح القرض الربوي، أما في الحالة الثانية، فبعقد بيع. ولا شك أن الله تعالى قد أحل البيع وحرم الربا، ولكن السؤال هل ما يجري في العينة والتورق هو بيع حقيقةً؟ إن كان الأمر كذلك، فلا مناص من الإقرار بحل المعاملتين إذن وقوفاً عند النصوص المحلّة للبيع. أما إن لم يكن ما يجري بيعاً حقيقياً فلا بد من الإقرار ببطلان التفريق بين الربا وبين العينة والتورق المنظم لاتحادهما أثراً ومعنى.
إنه لظاهرٌ في بيعي العينة والتورق المصرفي أن السلعة فيهما غير مقصودة حقيقة بالبيع والشراء، فالمرء يشتري ليقتني أو ليتاجر بإعادة البيع أملاً تحقيق الربح، ولا أحد يشتري ليخسر كما هو الحال في هذين البيعين، فإذا لم تكن الرغبة فيهما الاقتناء أو التجارة، فأي نوع من أنواع البيع هذا!
يقول الدكتور أنس الزرقا الخبير الاقتصادي: "تظهر العينة اندماجاً مؤقتا بسلعة سرعان ما يعيدها المشتري إلى بائعها، والمحصلة هي تمويل مجرد بزيادة. وكذا التورق الفردي يظهر اندماجاً مؤقتا بسلعة سرعان ما يتخلص منها المشتري ببيعها إلى طرف ثالث نقداً. وظاهر في العينة والتورق أن السلعة الوسيطة غير مقصودة للبائع ولا للمشتري، فتصلح أية سلع يسهل إعادة بيعها دون خسارة تذكر".
وقد يقول قائل إن مجرد التلفظ بألفاظ البيع من إيجاب وقبول يحيل الأمر إلى بيع، فيكون حلالاً بنص الشارع، ولعله يستدل على ذلك بالفرق بين الزنا والزواج، فالعلاقة الجنسية بين الاثنين حرام قبل التلفظ بألفاظ الزواج وحلال بعده؛ حتى إن هذه الألفاظ هي الحد الفاصل بين الزنا والنكاح.
والجواب بالإقرار بالفرق الكبير بين الزنا والزواج وأثر التلفظ بألفاظ النكاح على حل العلاقة الجنسية بين الجنسين، لكن هذا ما دام الزواج زواجاً حقيقياً، لا أن يكون بذاته حيلة على الزنا؛ كأن يتلفظ مريدا الزنا بألفاظ النكاح بحضور أصدقاء لهما وبنية التطليق بعد قضاء الوطر، ثم يجري الطلاق بينها وقد أشبعا شهوتهما، أو أشبع شهوته وملأت جيبها!!
لا نظن عاقلاً في أيامنا يماري في حرمة أن يُحتال على الزنا بهذه الطريقة، ولو كان هذا حلالاً بزعم أحد، لجاز لدار بغاء أن تُأسلمَ الزنا وترفع اسماً لها "دار الزواج الإسلامي"، ثم يكون منها أن تعيّن موظفين في قسم الاستقبال يستقبلون "العرسان" الذُكران من الباب، ثم يمكنونهم من الانتقاء من بين السيدات المتوفرات في هذه الدار "الزوجة" المناسبة من ألبوم صور أو على الطبيعة. ثم يسير الموظف وسيط الخير، بـ "العروسين" إلى قسم العقود، ليجري تبادل ألفاظ النكاح من إيجاب وقبول، وتوثيق العقد بحضور موظفين معيّنين في منصب "شهود". ثم يتّجه "الزوج" ليدفع "المهر" عند موظف الصندوق نقداً أو بالكردت كارد (بطاقة الائتمان) ليضعه في حساب "الزوجة" التي تتنازل عنه "باختيارها" للمؤسسة. ثم يصعد "العروسان" إلى غرفة من غرف المؤسسة ويكون فيها ما يكون، وبعد ساعة أو سويعات ينزل "الزوج"، وقبلَ خروجه من المؤسسة يعرّج على قسم العقود مرة أخرى ليتلفظ بلفظ الطلاق الباتّ، ويُوثقَّ ذلك، ثم يمضي الرجل إلى عمله بعد أن اُحتيط بالطبع من الإنجاب بالتقنيات الحديثة السهلة. وإذا كانت هذه الدار من الدور التي ترعى "خدمة الزواج الإسلامي" والبغاء التقليدي معاً لكن في مؤسستين منفصلتين، فإن بوسعها أن تشغّل هذه المطلّقة لحسابها في دار البغاء التقليدي إلى أن تنقضي عدتها ثلاثة شهور، لتعود بعد ذلك "زوجة شرعية" محتملة لعميل جديد لدى دار الزواج الإسلامي التابعة لها!
الحقيقة أن التصور المتقدم هو بمنزلة الهيكلة لمنتج جديد لا نستغرب أن قد تطرحه بعض المؤسسات في مجتمعاتنا، ولن يكون بوسع أحد من الشيوخ الذين يفتون بالعينة أو التورق المنظم أن يتجرأ على القول بتحريم هذا المنتج الجديد؛ فإن كان التلفظ بألفاظ البيع وشكلياتٌ أخرى تجعل التمويل الشخصي بزيادة حلالاً، فهو يقول بالضرورة بأن التلفظ بألفاظ النكاح تجعل العلاقة الجنسية التي صورنا بين عميل الدار وإحدى فتيات الدار حلالاً. فعقد الزواج هذا قد استوفى شروطه، فثمة صيغة وثمة مهر وثمة شهود، أما قضية الولي، فاشتراطه محل خلاف فقهي معروف ومؤصل. ولن يستطيع هذا المفتي الذي قد يستشيط غضباً لقولك إنه يقول لزوماً بحل هذا النوع من "الزواج"، أو ربما غيرةً وحميةً على دينه، إلا أن يستند في تحريم هذا الزواج وعدم اختلافه عن الزنا إلى مقاصد الشريعة في النكاح، ومعنى النكاح وجوهره! لنقول له حينئذ وأين مقاصد الشريعة ومعنى البيع وجوهره في العينة والتورق المنظم الذين تفتي بهما!! أليس في كل منهما يقصد العقد لاستحلال أمر حرمته الشريعة، وليس هو مقصوداً لما وضع له؛ هل وضع البيع والشراء لأجل الحصول على النقد مع الخسارة!!
ولم استنكرتَ التحايل على الزنا بهذه الطريقة ولم تستنكر التحايل على الربا بالعينة والتورق!! ثم كيف تستنكر الأدنى وتقر الأعلى والزنا لا يصل إلى مرتبة الربا ذنباً وكبيرةً!!
إن الذي يجعل المفتي بالعينة والتورق على ما فيهما من التحايل يستنكر التحايل على الزنا بالطريقة التي وصفنا هو أمر نفسي فقط، مبعثه استهجان أمر الزنا في النفوس ورفضه اجتماعياً، وليس هو مستنداً شرعياً أو حجة عقلية أو منطقاً رياضياً.
إن من يفتي بالعينة والتورق التحايلي، يحيل هذا الدين إلى مهزلة في عين القاصي والداني تماماً كما يحيله من قد يقدم خدمة "الزواج الإسلامي" التي وصفنا.
التحليل الاقتصادي لبيعي العينة والتورق:
بعد أن أثبتنا تناقض روح الشريعة مع منتجي العينة والتورق التحايلي، ننتقل إلى التحليل الاقتصادي الذي يبين لنا غياب الفارق بين القرض الربوي والتمويل بالعينة أو التورق.
اقتصاديّاً، ينشأ عقدا العينة والتورق التزاماً مالياً (دين) للعميل تجاه المصرف الإسلامي، نشأ هذا الالتزام عن معاملة قدم فيها المصرف للعميل نقداً هو أقل من الملبغ الذي التزم به العميل. هذا الأثر الاقتصادي للعملية مطابق لأثر القرض الربوي: التزام من العميل بدفع مبلغ ما هو أقل من المبلغ الذي حصل عليه من المصرف. فإذا كانت القروض الربوية تؤثر سلباً على الاقتصاد كما لا ينكر ذلك أحد، وكما أثبتت الدراسات، وصدّق ذلك كله الأزمة المالية العالمية التي نشهدها باعتراف أرباب الاقتصاد الرأسمالي الربوي، فإن ما يسمى ببيعي العينة والتورق لهما نفس الأثر الاقتصادي؛ أي لا يماري عاقل في أن المصارف ومؤسسات التمويل التي تسببت في تلك الأزمة لو كانت اعتمدت عقدي العينة والتورق في تمويل عملائها بدل الأسلوب التقليدي للقروض، لما اختلف شيء ولما أخر ذلك وقوع الأزمة فضلاً عن أن يمنع حدوثها!! وليس بوسع أحد ادعاء غير ذلك.
ولا يظنن أحد أن التمويل السلعي الحقيقي الملتزم الذي تمارسه المصارف الإسلامية ينشأ كذلك التزاما ماليا قد يعجز الأفراد المتمولون عن الالتزام به مما قد يؤدي إلى التسبب بمثيل هذه الأزمة. لا يصح قول ذلك لأن هذا ليس من القروض، بل من قبيل النشاط الاقتصادي الحقيقي الذي ينعش الاقتصاد لما يستلزمه من تقليب السلع حقيقة، لا صورةً، بين التجار والمستهلكين على نحو يحفز المنتجين والمصانع على زيادة الانتاج بنفاق سلعهم، إذ التاجر وسيط بين المنتج وبين المستهلك الحقيقي. ولو صح هدا المنطق، لكان كل بيع بثمن آجل شبيهاً بالربا من حيث الأثر.
أضف إلى تشابه العينة والتورق مع الأسلوب التقليدي للقروض الربوية أن كثيراً من مؤسسات التمويل بالعينة والتورق لم تعدم تخريجات لتغريم المتأخر بسداد ديونها، وهو الإجراء الطبيعي في القروض الربوية التي كانت منها القروضُ العقارية السببُ المباشر لوقوع الأزمة المالية، مما يؤكد تطابق الأثر الاقتصادي للتمويل بالعينة والتورق مع الأسلوب التقليدي للتمويل بالقروض.
وكما تستخدم القروض الربوية في إعادة جدولة ديون ربوية سابقة بزيادة عليها حين تعثر العميل في سداد مديونيته السابقة، وهو ما جرى في القروض العقارية التي تسببت بالأزمة، فإن العنية والتورق كذلك يُستخدمان في سداد المديونيات المتعثرة التي قد تكون ناشئة عن عينة أو تورق سابقين. ولا شك أن إعادة جدولة الدين بالأسلوب التقليدي، أو بأسلوب العينة أو التورق، سينتج عنها زيادة في مبلغ الدين السابق الذي كان على العميل أن يدفعه قبل تعثره، وهو معنى ربا الجاهلية الذي قطعت الشريعة بتحريمه.
يشير إلى هذه النقطة الدكتور أنس الزرقا الخبير الاقتصادي، فيقول: " إن التورق المنظم، حتى دون تواطؤ بين أي من أطرفه، يسهل إيصالنا إلى نفس المحطة التي يؤدي إليها ربا الجاهلية، وهي تسديد ديون أكبر لآجال أبعد، أي يؤدي إلى تصاعد المديونية بقوتها الذاتية غير المدمجة بسعلة أو بخدمة. وهذا يؤدي إلى الانفصام بين القطاعين الحقيقي من جهة والنقدي الائتماني في الاقتصاد، وهو من سمات الاقتصادات الربوية".
وفي رأي الدكتور أنس الزرقا، فإن أهم حكمة لحرمة التمويل غير السلعي الحقيقي، وهو مضمون العنية والتورق، هي سد الطريق إلى فسخ المديونية بمديونية جديدة، وهما سماه الفقهاء فسخ الدين بالدين، أو ربا الجاهلية. يقول الدكتور أنس الزرقا: "إن أهم ما يمتاز به ربط المديونية بسلعة مطلوبة حقاً أنه يسد الطريق على الاستدانة الجديدة لسداد دين سابق، وهذا يحصل في ربا الجاهلية مباشرة، والتورق والعينة يمهدان الطريق إليه تماماً، ويؤولان إليه على المستوى الكلي، بخلاف جميع صيغ التمويل الأساسية، بل حتى بخلاف المرابحة المصرفية".
وفي هذا الصدد أيضاً يقول الدكتور معبد الجارحي، الخبير المالي والاقتصادي، في التورق إنه: "يفتح الباب إلى أن تكتسب الديون التي تنتج عن التمويل الإسلامي صفات الديون الربوية، فالديون الناتجة عن التمويل الإسلامي لا يمكن تداولها؛ وفي حالة الإعسار المؤقت، تعاد جدولتها دون زيادة في قيمتها. فالدين متى تحددت قيمته عند انعقاد المرابحة أو البيع بثمن آجل، لا يجوز أن تزيد قيمته بتاتا. إلا أنه عند حدوث الإعسار المؤقت، ومع شيوع التورق المؤسسي، قد يجد المدين نفسه مرغما على أن يتورق لسداد دينه، وسيرغمه البنك على ذلك، لأنه سوف يجد في ذلك فرصة لزيادة أرباحه. وبالتالي تزيد قيمة الدين مقابل زيادة الأجل. وقد يتكرر التورق عدة مرات، ويتزايد الدين في كل مرة. وبعد أن قدم لنا دعاة المنتجات المشبوهة منتج التورق، سوف يجدون الفرصة سانحة للتمادي أكثر وأكثر بتقديم منتج تورق التورق. وهذا بالطبع سوف يضع الاقتصاد الإسلامي في مواجهة أزمة ديون مثل تلك التي يواجهها الاقتصاد الربوي".
ويقول أيضاً: "إذا شاع التورق، وشاع معه تبادل النقد الحال بالنقد الآجل، عاد إلى الاقتصاد سوق النقود، فتصبح للنقود الحالة قيمة إضافية مقابل النقود الآجلة، وإن كانت لا تسمى فائدة، فهي الفائدة بعينها. وبالتالي يكون للنقود سعر يدفع الناس إلى الاقتصاد في استخدامها، واستبدال الموارد الحقيقية التي تنتج، بالنقود التي لا تلد نقودا. الأمر الذي يضعف الكفاءة الاقتصادية ويضيع على المجتمع ما يمكن للموارد الحقيقية أن تقدمه من إنتاج".
فأي فارق بعد هذا البيان من حيث التكييف أو الأثر الاقتصادي بين العينة أو التورق الذين تتعامل بها بعض مؤسسات التمويل الإسلامية، وبين القروض الربوية التي تتعامل بها مؤسسات التمويل التقليدية! إن من العجيب حقاً ومن خيانة العقل والشرع أن يُفرَّق بينهما، ومن الأعجب أن تتمنطق علينا المصارف الممارسة للعينة والتورق وتفتخر بتقديم ما تسمية منتجات إسلامية تظهر عظمة الاقتصاد الإسلامي في مقابل الاقتصاد الربوي الذي من شأنه أن يخلق الأزمات!!