لا يمكن الاستهانة بما حققته الصناعة المصرفية الإسلامية من إنجازات وما زالت قادرة على المضي قدماً في ذلك، وهذا ما كان ليتأتى لولا توفيق المولى عز وجل ومن ثم جهود المجتهدين في المجال، لكن النجاح والصعود إلى القمة قد يعقبها سقوط منها وبلمح البصر، لذلك أصعب من النجاح أن تحافظ عليه وأحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم كما يقال، وما على المصارف الإسلامية والقائمين على العمل المالي الإسلامي إلاّ السّعي وراء التطوير المستمر وتقديم الأفضل للعملاء حتى لا يدركه في مكان آخر.


والتطوير المستمر يعني الحرص على توفر المعرفة وتطبيقاتها في المصرف الإسلامي أولاً، وكذا تجديدها وتحسينها نحو ما يمنح المصرف التميز ويحافظ في ذات الوقت على إسلاميته، إضافة إلى المتابعة المستمرّة لكل ما هو جديد في مجال أداء العمل المصرفي من تطوّرات تكنولوجية ومستجدّات اقتصادية وعياً بأنها يمكن أن تخدم أهداف المصرف وعملاؤه بجودة عالية.
ومن أهم منافذ التطوير ومجالاته تطوير رأس المال البشري والاستثمار فيه نحو بناء رأس مال فكري من أجل المحافظة على التميز والتفوق، وهو أمر مازالت الصناعة المالية والمصرفية الإسلامية تواجه تحدياته ونتائج نقصه على أرض الواقع، فلا يخلو تقرير أو دراسة أجريت حول الموارد البشرية في الصناعة المالية والمصرفية الإسلامية (صحيفة الاقتصادية الإلكترونية، 2007: العددين 02، 4856) من القول بأنّ هذه الأخيرة تعاني نقصاً في الكوادر البشرية المؤهلة لأداء العمل المصرفي الإسلامي، وقد عانت منه منذ نشأتها نظرا لخصوصية العمل فيها (غربي عبد الحليم 2008: 51)، وبالموازاة مع التوسّع الذي تشهده فهي مازالت تعاني من ذات المشكل رغم المحاولات والاجتهادات للكثير من الهيئات التي تُعنى بالعمل المالي والمصرفي الإسلامي.


وإذا كنا سنتحدث بشكل دقيق عن المشاكل التي تعاني منها المصارف الإسلامية بخصوص الموارد البشرية يمكن التفصيل عنها كما يلي:


1. عجز في توفير الكادر البشري المؤهّل بالعلم الشرعي والعمل المصرفي الإسلامي:


إنّ الرّكيزة الأساس في عمل المصارف الإسلامية هو استنادها إلى الشّريعة الإسلامية في تقديم منتجاتها وهذه ميزتها التي تفصلها عن المصارف التقليدية، وهذا ما يجب أن يتوفر عليه العاملين في العمل الإسلامي، لكن في الحقيقة أشارت أكثر من دراسة إلى أن المصارف الإسلامية تعاني من ناحية توفيرها لموظّفين لديهم المعرفة بالضّوابط الشّرعية وفي نفس الوقت المعرفة بفنون الصيرفة وأساسياتها ما أدى إلى حدوث مخالفات وأخطاء في شرعية المنتج المقدم للعملاء ممّا قد يؤثر على مصداقية المصرف الإسلامي لدى الجمهور.
فإذا عجز المصرف الإسلامي توفير كوادر بشرية مؤهلة بالمعرفة الشّرعية وتؤمن أساساً برسالته وأهدافه السّامية فإن العواقب ستكون سلبية على الصناعة المالية والمصرفية الإسلامية ككل، لأن ثقة المتعاملين الذي قصدوا المصرف الإسلامي ستهتز إن لم يجدوا إجابات عن استفساراتهم حول المنتجات الإسلامية أو بعض الفتاوى الشرعية في المجال المالي والمصرفي (غربي عبد الحليم، 2008: 51)، ويضيف الدكتور محمد عبد الحليم عمر مدير مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي أن غالبية المصارف الإسلامية ما زالت تواجه حتّى الآن مشكلة توفير الكوادر التي يتطلّبها العمل المصرفي الإسلامي، والتي تجمع بين المعرفة الشّرعية والخبرة المصرفية الإسلامية، مما كان له تأثير سلبي على أداء هذه المصارف (جريدة الشرق الأوسط، 2007: العدد 10479).


2. لجوء المصارف الإسلامية إلى توظيف عاملين بخلفية ربوية:


قد تكون هذه المشكلة هي الرّئيسية من بين ما تعانيه الموارد البشرية في المصارف الإسلامية أو لنقل هي المسبّبة لبقية المشاكل، فقد وجدت المصارف الإسلامية نفسها مضطرّة لتوظيف ذوي الخبرات المصرفية الرّبوية من أجل تكوين جهازها الإداري والتنفيذي، وهذا ما أدّى إلى ضعف إيمان العاملين برسالة وأهدافه المصرف وكذا تفضيلهم لطريقة العمل المصرفي التقليدي الرّاسبة في أذهانهم (إرشيد محمود، 2008: 523)، والخاسر الأكبر في هذه المعادلة هو المصرف الإسلامي والرسالة التي يحملها كون ذلك سيؤثر سلباً على نظرة العملاء له. وقد تتأزّم الأمور أكثر إذا علمنا أن أصحاب الخبرة المصرفية الربوية قد يترقون ويتدرّجون في السلم الإداري وصولاٍ إلى قيادة المصارف الإسلامية، وهنا تصبح هذه الأخيرة إسلامية شكلاً ووضعية مضموناً، وليس عيباً أن تلجأ إلى من لديهم خبرة مصرفية لا بأس بها فهي تحتاج لها، ولكن قبل ذلك يجب التأكّد من وعيهم بأهداف العمل الإسلامي قبل ممارسته على أرض الواقع.


3. عدم كفاية أنظمة التّعيين والاستقطاب في المصارف الإسلامية:


في بدايتها عانت انطلاقة المصارف الإسلامية من مشكلة الموارد البشرية المؤهلة للعمل المصرفي الإسلامي وكانت طريقة تعيين العاملين فيها لا تختلف جوهرياً عنها بالمصارف التقليدية، وذلك لفقدان البديل، وكان مستوى التأهيل للعمل المصرفي العادي، ومدى سنوات الخبرة فيه هو المعول عليه في إسناد الوظائف والتكاليف بالمهام (دار المراجعة الشرعية، 2005: 03)، وبالتالي لم تكن هناك معايير واضحة وموحدة لتعيين العاملين في المصارف الإسلامية، لأن طبيعة عمل هذه الأخيرة تتطلب حرصا كافياً على تعيين من هم أكفأ من ناحية العلم بمبادئ وضوابط الشّريعة فيما يخص أداء الخدمات المصرفية وكذلك من ناحية المهارة التقنية الخاصة بالعمل.


وفيما يخص متطلّبات التعيين والاختيار لعامليها فإن المصارف الإسلامية وجدت نفسها بين خيارين، إمَّا أن تقبل بأصحاب الخبرة القادمين من المؤسسات المالية التقليدية وإن كان استيعابهم لمقاصد وقيم وأحكام المالية الإسلامية ضعيفاً، أو أن الأولوية تكون تغليب قبول المستوعبين لمقاصد هذه المالية وأهدافها وقيمها الأساسية وأحكامها الشرعية وإن كان استيعابهم للجانب التطبيقي التقني ضعيفاً (بوهراوة سعيد، 2008: 10)، ومهما كان السّبب في ذلك إلاّ أن حل هذه المشكلة يبقى واضحاً وهو تدريب كلا الفئتين من المتقدمين للعمل في المصرف الإسلامي.
ويمكن القول أن هناك تحسّناً ملحوظاً نحو تحديد المعايير اللازمة للعاملين في المؤسسات المالية والمصرفية الإسلامية، لكن ينبغي الحرص على الالتزام بها عند الحاجة إلى تعيينات جديدة، وهو الأمر الذي مازالت الرّؤية بخصوصه غير واضحة كما أشارت الدراسة الاستقصائية التي أجراها المعهد العالمي للفكر الإسلامي إلى أن المرتبة الأولى في أسس اختيار العاملين في عدد من المصارف الإسلامية هي للاعتبارات الشخصية، ثم تأتي بعدها الكفاءة والمفترض أن هناك تعارضًا بين الاعتبارات الشخصية وعوامل الكفاءة (غربي عبد الحليم، 2008: 51).


4.الفصل بين الواقع العلمي والعملي لضوابط العمل المصرفي الإسلامي:


مكمن الخلل في هذه النقطة أنه حتى وإن توفر الموظف على المعرفة النظرية والعلم الشّرعي حول المعاملات المالية سواء في الجامعة أو من خلال دورات تدريبية، يبقى في حيرة من أمره إذا لم يتعلم التطبيقات العملية لتلك المعرفة، وقد يرجع السّبب إلى نوعية برامج التدريب والتأهيل، لكن المهم أن المعرفة النظرية شيء والتطبيق لها شيء، لذلك يجب تجنب حصول فجوة أداء بين الاثنين، والعمل على تأهيلهم عمليا بما يسمح لهم الربط بين الواقع ومتغيراته من ناحية، وبين فقه النص الإسلامي من ناحية أخرى (جريدة الشرق الأوسط، 2007: العدد 10479)، وإلاّ سيؤثّر هذا على علاقة المصرف الإسلامي بمتلقي الخدمة.


5. التّقليل من أهمية الجانب الأخلاقي في ممارسة العمل المصرفي الإسلامي:


لا يكفي أن يستوعب الموظف في المصرف الإسلامي المعرفة بالضوابط الشّرعية للمعاملات المالية فحسب، بل هناك بعد آخر مهم في أداء العمل كما في حياتنا عموماً، وهو البعد الأخلاقي الذي يرتبط بنظام المعاملات على نحو ملزم في التشريع الإسلامي وفقهه، وهذا مردّه إلى أن الإسلام عقيدة وشريعة ودين ودنيا والشّريعة عبادات ومعاملات وأخلاق (عبد الحميد البعلي، 24).


لكن واقع الحال لا يثبت ذلك، إذ أن بعض الدراسات أظهرت أن بعض العاملين والمتدرّبين في المصارف الإسلامية لا يكترثون بالقيم والأخلاقيات، ويعتبرونها مجرد مواعظ عامة لا تتصل كثيراً بالجانب الفنّي العملي، ممّا يقلّل درجة الاستفادة من تلك القيم أو الحرص على الالتزام بمقتضاها (دار المراجعة الشرعية، 2005: 05)، ويعزّز الباحث إرشيد هذا القول من خلال عمله كمراقب شرعي في عدّة مصارف إسلامية مشيراً إلى أن هناك بعض المخالفات الشّرعية في سلوك بعض العاملين في المصارف الإسلامية والتي لا تعكس مبادئ وقيم الدين الإسلامي (إرشيد محمود، 2008: 03)، وبالتالي يجب الانتباه إلى هذا الجانب وعدم إغفال أهميته ذلك أن الالتزام بالقيم والمبادئ الأخلاقية في علاقات العمل والقرارات اللازمة لتيسيرها تنعكس إيجابيًا على سمعة المنظمة وأدائها المالي والاستثماري والإداري وبالتالي على التكاليف ومن ثم الإيرادات والربحية (عبد الحميد البعلي، 49)، وما اهتمام المؤسّسات الدولية به إلاّ خير دليل على أهمية مكانته في العمل.


وبالعودة إلى الحديث عن رأس المال الفكري وأهميته يجب أن تعي المصارف الإسلامية أن بناء رأس مال بشري مسلح فكريا بالمعرفة وتطبيقاتها لهو أمر ضروري تتوقف عليه استمرارية المصرف وبقاءه، ذلك أنه يجنبها الكثير من المشاكل والمخاطر التي هي في غنى عنها، فإذا عجزت عن توفير ذلك فإنها ستدخل دوّامة حل المشاكل وتصحيح الأخطاء حتى لا تفقد مكانتها وحينذاك تفقد التركيز على نشاطها وهدفها الأساسي.


والعمل المصرفي يواجه مخاطر عدة خاصة الإسلامي منه، لأنّ هذا الأخير يحمل تنوعا ظاهراً في نشاطاته ومنتجاته المالية والخدمات التي يقدمها على عكس العمل المصرفي التقليدي، وإذا حلَّلنا بعض أنواع تلك المخاطر نجد أنها مرتبطة بشكل أساسي بالمعرفة ومدى توفرها في المصرف سواء لدى الكادر البشري أو في هياكله ونشاطاته. ومن بين الأمثلة أن طبيعة الاستثمارات التي تجريها المصارف الإسلامية تشكل أحد مصادر المخاطر الأساسية التي تواجهها (حمزة عبد الكريم حماد، 2007: 32)، وبالتالي فهي تتطلّب دراسات جدوى وتقييم لتحديد مدى ملاءمتها للمصرف، ومتابعة عملياتها الاستثمارية إذا تم اعتمادها وإنجازها، ومن يقوم بهذا العمل هو نوعية مؤهّلة ومدركة من الموارد البشري لديها المعرفة والقدرة على القيام بذلك.