-
وردت الأنباء على عمر رضي الله عنه مبشرة بفتح الشام وفتح العراق وبلاد كسرى، ورأى نفسه أمام مشكلة مالية خطيرة... فأموال الأعداء: ذهبهم وفضتهم وخيولهم وأنعامهم وقعت غنيمة في أيدي الغزالة المظفرين بتأييد الله تعالى، وأرضهم كذلك دخلت في حوزتهم.
أما المال فقد أمضى عمر فيه حكم الله تعالى، إذ أخذ خمسه، ووزعت الأخماس الأربعة على أفراد الجيش تنفيذاً لقوله تعالى: [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الأنفال:41}.
أما الأرض فكان له فيها رأي آخر... كان رأيه أن تحبس ولا توزع، وتبقى كأنها ملك للدولة في يد أصحابها القدماء، يؤدون عنها الخراج، وما يحصّل من هذا الخراج يقسّم في عامة المسلمين، بعد أن يحجز منه أجور الجند المرابطين في الثغور، والبلاد التي فتحت.
أما الكثير من الصحابة فأبى إلا أن توزع عليهم الأرض لأنها فيء أفاءه الله، وكانت وجهة نظر عمر رضي الله عنه أن البلاد المفتوحة تحتاج إلى حاميات من الجند يقيمون فيها، ولابد لهؤلاء الجند من رواتب، فإذا قسمت الأرض فكيف يدبر لهذه الحاميات أرزاقها؟... ذلك إلى أن الله تعالى لا يريد أن يكون المال دُولة أو مأكلة بين الأغنياء وحدهم، فإذا قسمت هذه الأراضي الشاسعة الواسعة في الشام ومصر والعراق وفارس على ألوف معدودة من الصحابة تضخمت الثروات في أيديهم، ولم يبق شيء للذين يدخلون في الإسلام بعد ذلك، فيكون الثراء الهائل في ناحية والحاجة المدقعة في ناحية أخرى... وهو ما كان ضمير عمر يأباه.
ولكن دليل الكتاب والسنة في جانب المعارضين لرأي عمر، الراغبين في الثراء الحلال الذي ساقه الله إليهم، فهم يحتجون عليه بأنه فيء، و ارض الفيء قسّمها الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل، ولم يفعل بها ما يريد عمر أن يفعل، واشتد بلال رضي الله عنه على عمر، وتزعم حركة المعارضة حتى أحرجه و ضايقه، وحتى بلغ من ضيقه وحرجه أن رفع يديه لله: (اللهم اكفني بلالاً وأصحابه)... وكفاه الله بلالاً وأصحابه بالفقه الدقيق يرفعه له نوراً من بين سطور الكتاب العزيز، وبالحجة البالغة ينحاز لسلطانها القوم.
هذا عمر رضي الله عنه يقول لمن حضر من أصحابه: إن سعد بن أبي وقاص كتب إليه من العراق بأن القوم معه سألوه أن يقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم من الأرض.
بعض الحاضرين: اكتب إليه فليقسمه بينهم.
عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين بعد ذلك، فيجدون الأرض قد قسمت، وورثت عن الآباء وحِيزت؟...ما هذا برأي.
عبد الرحمن بن عوف: فما الرأي؟ ما الأرض إلا مما أفاء الله عليهم.
عمر: هو كما تقول... ولكني لا أراه... والله لا يفتح بعدي بلد عسى أن يكون كلا على المسلمين... فإذا قسمت أرض العراق، وأرض الشام، فما تُسد به الثغور، وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد، وبغيره من أهل الشام والعراق؟
القوم: كيف تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا؟
عمر: ـ في حيرة وتوقف ـ هذا رأي.
القوم: استشر.
ويستشير عمر المهاجرين الأولين ذوي السابقة والقدم الراسخة في الإسلام.
عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تقسم للناس حقوقهم.
علي بن أبي طالب: بل الرأي ما رأيت يا أمير المؤمنين.
الزبير بن العوام: لا. بل يقسم ما أفاء الله علينا بأسيافنا.
عثمان بن عفان: الرأي ما قال عمر.
بلال: لا والله، بل نمضي حكم الله فيما أفاء على عباده المؤمنين.
طلحة: أرى الحق فيما ذهب إليه عمر.
الزبير: أنى يذهب بكم يا قوم عن كتاب الله.
عبد الله بن عمر: امض يا أمير المؤمنين لما رأيت فإني ارجو أن يكون فيه خير هذه الأمة.
بلال: ـ صائحاً غاضباً ـ والله لا يمضي في هذه الأمة إلا ما أمضاه كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
عمر: ـ في ضيق وحرج ـ اللهم اكفني بلالاً وأصحابه.
واحتدم الجدال ثلاثة أيام، وكثر لغط الناس حول هذه المشكلة، و ألهم عمر أن يتسع بالشورى من دائرة المهاجرين حتى تشمل أفق الأنصار، فاستدعى عشرة منهم: خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج، وخطب فيهم بهذا القول الجميل الحكيم: (حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم فإني واحد كأحدكم... وأنتم اليوم تقرون بالحق خالفني من خالفني ووافقني من وافقني... ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو هواي... معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا بالحق.
الأنصار: قل نسمع يا أمير المؤمنين.
عمر: سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلماً... لئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت... ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم، فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه...أما الأرض فرايت أن أحبسها وأضع على أهلها فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين والمقاتلة و الذرية، ولمن يأتي من بعدهم، أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لابد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم؟... فمن أين يعطي هؤلاء إذا قسمت الأرض؟
الجميع: الرأي رأيك فنعم ما قلت: إن لم تشحن هذه الثغور والمدن بالرجال، ويجر عليهم ما يتقوون ب رجع أهل الكفر إلى مدنهم.
والتمع في ذهن عمر رضي الله عنه نور مما اعتاد الحق أن يلقيه على لسانه وقلبه فقال وإني قد وجدت حجة في كتاب الله: [مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَللهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الحشر:7}. ثم قال عقب ذلك: [لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر:8} .
ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال:[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.فهذا للأنصار خاصة، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال:[وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {الحشر:10}.فكانت هذه الآية عامة لمن جاء من بعدهم فقد صار هذا الفيء بين هؤلاء جميعاً فكيف نقسمه لهؤلاء وندع من تخلف بعدهم بغير قسم؟!
الآن قد بان لي الأمر...
[رضي الله عن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم].
ويستطيع الباحثون أن يستخرجوا من هذا الموقف كثيراً من الأحكام الاجتماعية والاقتصادية...
ففيه نرى عمر رضي الله عنه حريصاً كل الحرص على أن لا يتكدس ا لمال في أيدي فئة من الأغنياء، فإن أيلولة عشرات الملايين من الأفدنة بالعراق والشام وفارس، ومصر إلى جماعة الغزاة ومن حكمهم يخلق فئة من الأثرياء يتضخم فيهم المال ويتركز تداوله فيما بينهم، ولهذا آثار اجتماعية وخلقية لا تحمد عاقبتها.
وفيه نرى عمر ينظر إلى المال على أنه حق للجميع ويسوسه سياسة يرعى فيها صالح الأجيال القادمة، وهي نظرة دقيقة عميقة لها من القرآن الكريم سند أي سند.
وفيه لون من تأميم الأراضي أو ما يشه التأميم، إذ منع جماعة المسلمين المعاصرين له أن يستولوا على ما أفاء الله من الأراضي، ولم يتحول عن رأيه في جعلها ملكاً للدولة ينفق من إيرادها على الجند، ويواجه بها ما تأتي به الأيام من مطالب.
وفيها غير ذلك من النظرات المالية والاقتصادية التي تدل على سعة الأفق ومرونة التفكير وإحاطة الإسلام الحنيف بدقائق المسائل... هدانا الله إلى استخراج ما في ديننا من كنوز ومبادئ وحقائق.
أ. البهي الخولي
-